البحث الأثري في تل بيدر NABADA - TELL BEYDAR:
يقع تل بيدر على الضفة اليمنى لوادي الرجلة نهر العويج،
ويبعد عن مركز محافظة الحسكة 35كم إلى الشمال الغربي
منها، وتبلغ مساحة التل الرئيس حوالي 28هكتاراً، أما محيطه
فيبلغ حوالي 2كم، ويرتفع عن السهول المحيطة به حوالي 27.5م
، ويرتفع عن سطح البحر 387.75م، وهو عبارة عن تل دائري
الشكل يبلغ قطره 600م، حيث يحيط به سوران؛ داخلي وخارجي،
وتتخلله سبعة مداخل ظاهرة، وهي على الأغلب بوابات قديمة للموقع
تتجه نحو المدن القديمة الهامة مثل: ناكار تل براك - نينوى
- أوركيش تل موزان - ماردين - تل خويرة – إبلا تل مرد يخ –
ماري تل الحريري .
وتدل هذه البوابات السبع على الأهمية الاستراتيجية
في الحركة التجارية الدولية خلال الألف الثالث ق.م.
هذا وقد أجرت بعثة أثرية أوربية عام 1991م أسباراً اختبارية في تل بيدر
وأنجزت مخططاً طبوغرافياً له.
وفي العام 1992م بدأت بعثة أثرية سورية - أوروبية مشتركة أعمالها
التنقيبية في الموقع برئاسة كل من الآثاريين:"د. حميد حمادة - د. أنطوان سليمان-
أ. عبد المسيح بغدو" بالتتابع عن الجانب السوري من المديرية العامة للآثار والمتاحف،
وبرئاسة د. "مارك لوبو" عن الجانب الأوروبي.
وقد بينّت أعمال التنقيب المنهجي التي قامت بها البعثة لعدة مواسم في
عدة قطاعات أن تأريخ الاستيطان في الموقع كان قد بدأ في الألف الثالث ق.م
فترة فجر السلالات الباكرة بمراحلها الثلاث- الفترة الأكادية،
وأعيد الاستيطان فيه خلال الفترة الهلنستية، وتم ذلك من خلال الكشف
على سوية أثرية ضمن السور الخارجي الواقع في الجهة الشمالية الشرقية
من التل القطاع (H) حيث عثر في داخلها على أساس لجدار مبني من اللبن،
ومجموعة من الكسر الفخارية تعود إلى فترة فجر السلالات الباكرة الأولى
والثانية 2950-2650ق.م، وهي أقدم نماذج فخارية وجدت في التل،
حيث توضعت فوقها سوية تعود إلى فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة
2650-2350ق.م، وتم الكشف في داخلها عن عدة قبور لأطفال مبنية من اللبن.
وتم التعرف أيضاً في القطاع (G) على السور الداخلي المبني من اللبن الخشن
وهو بعرض 6.5م، وطول 5م باتجاه شرق – غرب، وبارتفاع 3.5 م
والذي تألف من ستة تدرجات نحو الأسفل، حيث شكلت سوراً انزلاقياً
ذا وظيفتين : الأولى دفاعية، والثانية استنادية لتقوية السور الأساسي لحماية
المدينة العليا، و يعود تاريخ بناء هذا السور إلى فترة فجر السلالات الباكرة
الأولى واستمر حتى فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة.
وضمن سوية فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة تم الكشف على البوابة الداخلية
للمدينة القطاع :I، والمستودعات القطاعE.
أمّا أهم المكتشفات الأثرية ضمن السوية العائدة إلى فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة
فقد تمثلت في: الأبنية الرسمية المشادة على مصاطب مستوية في قلب المدينة العليا
وهي عبارة عن قصر المدينة العلوي الذي يحيط به من الجهة الجنوبية أربعة معابد
A،B،C،D ومستودعات، وغرف التخزين، وشارع رئيس القطاعF،
تليه الساحة الجنوبية القطاعS ، ومنشأة معمارية القطاعM ، ومن الجهة الشرقية
مبنى إدارياً هاماً مؤلفاً من عدة غرف القطاعP، ومن الجهة الشمالية كانت
هناك حظائر تليها غرف صغيرة الحجم تفصلها عن البيت الخاص، وبيت الرقم .
يعد قصر المدينة العلوي من أهم المكتشفات في التل،وهو عبارة عن بناء مربع
الشكل منظم وفق مخطط مسبق ذي تصميم رافدي احتوى ثلاثة أجنحة :
ضَّم الجناح الشمالي الإداري ورشات العمل، المتصلة بشكل مباشر مع الملك
وتحت إشرافه، وقاعة لها مدخل تتصل بدرج يتجه نحو الشمال. عثر في داخل
بعض الغرف على مجموعة من الرقم المسمارية واحتوى الجناح الجنوبي المرتبط
مع الشارع الرئيسي القادم من الجنوب على عدة غرف لتأمين خدمات القصر،أما الجناح
الأوسط فقد تألف من رواق وغرفة استقبال وغرفة العرش.
كما تمّ الكشف أمام مداخل القصر وأبواب الغرف على كسر طينية عليها طبعات أختام
مما أكد الصفة الرسمية الملكية للقصر وكانت الطبعات على ثلاثة أنواع:
الطبعة الرسمية، وطبعة النسيج، وطبعة باليد والأصابع.
ومن خلال دراسة المادة الأثرية تبين أن القصر كان قد بني في المرحلة الأولى
حوالي عام 2500ق.م، وتغيّر مخططه مرتين في القرن التالي، وفي المرحلة الثانية
أضيف إليه جناحان من الغرف في القسم الشرقي والشمالي الغربي منه،
أما في المرحلة الثالثة فقد تم إشادة غرف جديدة في الجزء العلوي.
أمّا إلى الغرب من القصر فقد تم التعرف على منشأة معمارية تعود إلى الفترة الأكادية،
وهي عبارة عن عدة غرف متتالية من الشمال إلى الجنوب، عثر في داخلها على جزء
من رقيم مسماري، ومجموعة من الأواني الفخارية.
وفي الجهة الجنوبية من القصر تم الكشف عن المعبد (A) العائد إلى حوالي عام 2400ق.م
وهو أكبر المعابد الأربعة التي اكتشفت في تل بيدر حتى الآن.
حيث احتوى على (12) غرفة، وساحة مفتوحة، ورواق، ودرج يصل من
الأرض إلى السطح، بالإضافة إلى عدد من الغرف في الطابق الثاني .
وهو يمتلك نفس الميزات الرئيسة التي تمتلكها المعابد الأخرى من حيث مدخل
الغرفة ذي البابين المنعزلين المسبقين بدرج صغير، والمرصوفين بالقرميد المشوي
والمجهز بحوض مائي، بالإضافة إلى وجود عدد من الزخارف الدينية: كالمحاريب،
والتجاويف ذات الكتل التزيينية على الواجهة الشرقية يتقدمها مصطبة وجدار صغير،
أمّا الجناح الجنوبي فقد تألف من غرف صغيرة مرصوفة بالقار، ودكات يعتقد أنها ترتبط
بالتحضيرات والقرابين. وعلى الجانب الآخر من الشارع الصغير توضعت سلسلة من
غرف التخزين المرتبطة بالمعبد والمجهزة بقناة حجرية للصرف الصحي والمياه.
ويعتبر المعبد (B) والمعبد (C) العائدين إلى حوالي عام 2400ق.م نموذجين
مميزين للعمارة الدينية في /نابادا/.
ضَّم المعبد (B) ست غرف ضمنها رواق يقود إلى الدرج الذي يصل إلى أعلى
مصطبة في المدينة، وقد رصف المدخل باللبن المشوي، وفي الجزء الشمالي الشرقي
منه توضع الحمام الأول مع المرحاض، وفي مركز البناء وجدت غرفة واسعة
استخدمت للشعائر الدينية مجهزة بالصفات المميزة لمقدسات نابادا من حيث الكتلة
التزينية المترافقة مع المصطبة ذات الجدار المنخفض الحرم (Cella)،
أما الجزء الغربي من المعبد فهو عبارة عن حمام وغرفة.
ويتشابه المعبد (C) مع المعبد (B)، ولكنه أكبر قليلاً منه، حيث تألف الجزء
الجنوبي من واجهته من عشرة محاريب مزخرفة، له مدخل مرصوف باللبن المشوي،
وهو يقع في الجهة الشرقية، يليه ممر يصل إلى ثلاثة مجموعات مترابطة من السلالم
تؤدي إلى الحمام الأول، وفي القسم الغربي منه توضع بابان منعزلان يقودان إلى
الغرفة المركزية، كما أن الحمام الثاني مع غرفة الحرم يتممان المخطط.
وإلى الجنوب من هذين المعبدين، تم الكشف على بناء طويل يتألف من خمس
وحدات مختلفة، وهي عبارة عن ورشات عمل وغرف للتخزين ومستودعات
يفصلها عن المعبدين شارع.
وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة العليا، تم التعرف على المعبد (C) المبني
على شكل حرف L واجهته الرئيسة مزخرفة بشكل جميل، لها محاريب ودعامات
على الوجه الخارجي، وكان يتم الوصول إليه عن طريق درج حجري من الشارع إلى
ردهة ضيقة، ثم إلى غرفة أخرى كمدخل، وهي مرصوفة باللبن المشوي، تخترقها قناة
لتصريف المياه تؤدي إلى الشارع الرئيس، يليها حمامان أحدها مجهز بمرحاض له بابان
منعزلان يقودان إلى الغرفة الرئيسة الدينية المجهزة بزخارف عبارة عن محاريب،
وتجاويف، ومصطبة، وجدار أمامي منخفض، وفي الجزء الشمالي الشرقي من الحرم
كشف عن غرفتين متطاولتين بالإضافة إلى غرفتين إضافيتين تتمركزان في الجزء
الشمالي منه، ويعتقد بأن هذا المعبد قد تحول لبيت خاص لرئيس الجماعة المقيمة
على خرائب المدينة في الفترة الأكادية المبكرة حوالي 2350- 2250 ق.م.
أمّا إلى الجنوب من واجهة المعبد (D)، فقد كشف في القطاع (S) عن الباحة
الجنوبية ذات الأبعاد 15×18م، أرضيتها مرصوفة باللبن المشوي،
وقد احتوى جدارها الشرقي على بابين مزخرفين، وكان مدخلها الجنوبي
يقع في أقصى الطرف الغربي للجدار الجنوبي.
كما تم الكشف في الطرف الشمالي الغربي من الباحة القطاع (F)
عن البوابة الرئيسة التي ترتبط بالشارع الرئيس الذي يسير بخط مستقيم تتخلله
أربع مصاطب مختلفة المساحة، ويستمر حتى مدخل القصر.
لقد تمّ رصف الشارع الرئيس الدرج بالحجر البازلتي، حيث تخترقه في قسمه
العلوي قناة حجرية مرتبطة بشبكة رئيسة للصرف تضم المدينة بالكامل.
وفي الجزء الجنوبي من القطاع (B) المحاذي لجدار القصر الشمالي تم التعرف
على حظائر الغنم وبيوت التخزين. أما في الجزء الشمالي منه فقد كشف عن حي
البيت الخاص المؤلف من تسعة منازل، وعدة غرف بأحجام متنوعة، تتوزع على
الجانب الشرقي والغربي من الشارع المرصوف بالحجارة البازلتية، ويتوسطه قناة
لتصريف المياه، وقد عثر تحت أرضيات ثلاث غرف من تلك المنازل على
/141/ رقيم مسماري، وبذلك وصل عدد الرقم المسمارية المكتشفة في الموقع
إلى (230) رقيماً مسمارياً يعود تاريخها يرقى إلى 2425-2400ق.م،
وقد تناولت هذه الرقم مواضيع إدارية - اقتصادية- تجارية- قانونية-
مدرسية تعليمية- أدبية - أساطير سومرية، وعثر عليها في بيوت خاصة،
وفي قصر المدينة العلوي، وفي أبنية كانت قد اتخذت لنشاطات إدارية.
إنَّ طينة هذه الرقم لم تكن فقط للوثائق المكتوبة، وإنما استخدمت لصناعة
كرات طينية تجارية عليها طبعات أختام وجد منها ما يقارب الثلاثين منتشرة
في أبنية المدينة التي تشهد على استعمال الكتابة في التصدير والاستيراد والبيع.
وتُعد هذه الرقم من أقدم الوثائق المكتوبة المكتشفة حتى الآن في سورية بشكل
عام وفي الجزيرة السورية بشكل خاص.
بعد تلك الفترة هجر التل الرئيس حوالي ألفي عام لتعود إليه الحياة من جديد في
الفترة الهلنستية حوالي عام 150ق.م، حيث كشفت أعمال التنقيب عن سوية
أثرية فوق الطبقات العليا من القطاع (M) بلغت سماكتها أكثر من 2م
احتوت على مجموعة من الغرف عثر في داخلها على عدد من
الأواني الفخارية والبازلتية.
وفي القطاع (A) تم التعرف على بناء رسمي مبني من اللبن القصر الهلنستي،
وهو عبارة عن ساحة مستطيلة كبيرة تتصل في الجهة الشمالية بالقاعة الطويلة،
وخمس غرف متتالية على صف واحد في كل جناح. أمّا الواجهة الغربية للبناء
الشمالي والغربي فقد كانت محصنة بسلسلة من الدعائم والتجاويف المتناوبة
حيث وجد في داخلها أسرجة ودمى فخارية ونقود مصنوعة من البرونز.
هذا ويعتبر القصر الهلنستي المكتشف في تل بيدر استمراراً للإرث المعماري
الرافدي القديم الذي بقي موجوداً إلى ما بعد الفترة الهلنستية.
وتم الكشف في الجهة الغربية من التل على بعد 170م من السور الخارجي
القطاع: J الواقع ضمن المدينة المنخفضة التي بلغت مساحتها أكثر من 50هكتاراً
عن سويتين أثريتين إحداهما تنتمي إلى الفترة الميتانية، والثانية إلى الفترة
الآشورية الحديثة.
كشف داخل السوية العائدة إلى الفترة الميتانية القرن الخامس عشر ق.م
عن مبنى مؤلف من عدة غرف مستطيلة الشكل عرض جدرانها 80سم
مبنية من اللبن المستطيل عثر في داخلها على كؤوس وجرار ملونة مرسوم
عليها أشكال هندسية ونباتية وحيوانية وإنسانية.
أما السوية العائدة إلى الفترة الآشورية الحديثة 900- 700 ق.م فقد ضمَّت
بناءً منظماً تألف من عدة غرف كبيرة وصغيرة، مبنية من اللبن، بلغت سماكة
جدرانها ما بين 1- 0 1.2م ، توضع تحت أرضياتها مجموعة من القبور الفخارية،
وقد عثر في داخلها على مجموعة من الأختام الأسطوانية التي تتشابه مع الأختام
التي وجدت في تل الشيخ حمد، وتل بويض، وعثر أيضاً على قطع مصنوعة من
العاج تمثل صوراً لحيوانات ونباتات تتشابه مع مثيلاتها تلك التي وجدت في موقعي
أرسلان طاش، ونمرود.
أمّا إلى الجنوب من تل بيدر وعلى بعد 500م منه فقد أظهرت الأعمال التنقيبية
في الجهة الجنوبية من التل الصغير المخروطي الشكل ذي المساحة 1.3هكتار,
والذي يرتفع عن السهول المحيطة به 3م على أربع سويات أثرية بيّنت أن الموقع
كان مأهولاً خلال العصر الحجري النحاسي، أي فيما بين عامي 4400 و 3900ق.م
بدءاً من المرحلة الأخيرة من فترة عبيد السوية4، وحتى المراحل الأحدث منه
السويات 3-2-1. وقد تم الكشف ضمن السويات (3-2) عن بقايا عمرانية،
بحيث ضمَّت السوية (3) بقايا مواقد بيضوية ومدورة. واحتوت السوية (2)
على بنائين منفصلين تألفا من غرف مستطيلة ومربعة الشكل كانت جدرانها قد
طليت بالجص. وعثر ضمن السويات الأربع على مجموعة من الأدوات العظمية
و الحجرية والفخارية .
وأخيراً يمكننا أن نقول: إنّ أهمية تل بيدر تأتي من خلال الاكتشافات التي تحققت
فيه، وخاصة المنشآت المعمارية، والرقم المسمارية العائدة إلى فترة فجر السلالات
الباكرة الثالثة.
المرجع : بغدو ,عبدالمسيح . مائة وخمسون عاماً من البحث الأثري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق