*البحث الأثري في تل شاغر بازار(حطين) TELL CHAGAR BAZAR :
يقع تل شاغر بازار على الضفة اليمنى لوادي خنـزير أحد
روافد نهر الجغجغ على بعد 46 كم شمال مدينة الحسكة،
و25كم جنوب ناحية عامودا، تبلغ مساحته 12 هكتاراً،
ويرتفع عن السهول المحيطة به 21م.
كان لموقع تل شاغر بازار أهمية كبيرة على الطرق التجارية شرق- غرب
من الخابور إلى منطقة دجلة العليا، وشمال - جنوب من الأناضول إلى
الخابور الأدنى والفرات، حيث اختاره ماكس مالوان ليكون مقتطفاً نموذجياً
عن الفترات الرئيسية التي تم الاستيطان فيها بمنطقة الخابور منذ
عصور ما قبل التاريخ، ولغاية العصور التاريخية،
وأجرى عمليات التنقيب فيه طيلة ثلاثة مواسم متعاقبة فيما بين الأعوام
1937-1935م وذلك في ثمانية قطاعات، وسبراً وصل عمقه إلى 17م
في الجهة الشمالية الغربية من التل.
ولقد تمكن من خلال التنقيبات التي قام بها في تل شاغر بازار من التعرف
على عدة سويات أثرية تم تأريخها ما بين الألف الخامس والألف الثاني ق.م.
حيث اكتشف في السوية الأولى التي أرخها ما بين 1900-1600ق. م
آنية مطلية، وأشكالاً اسطوانية من نوع تلك الأسطوانات التي وجدت في كركوك،
وأبنية مبنية من مادة اللبن، وهي تعود للقرن الثامن عشر ق.م، كما عثر بداخلها
على مجموعة مهمة من الرقم المسمارية وصل عددها إلى مئة وأربعين رقيماً
مسمارياً ضُّم قسماً منها لمتحف حلب، والقسم الآخر ضمّه المتحف البريطاني بلندن.
أما السويتان الثانية والثالثة اللتان حُدد تاريخهما مابين 2900-2300ق.م
فقد عثر فيهما على آنية مصقولة متعددة الألوان سوداء ورمادية،
وفي السويات الرابعة والخامسة عثر على آنية مزخرفة مطلية،
وأختام حديدية، وأشكال أسطوانية، وعثر أيضاً على آنية نادرة من
نموذج أواني تل حلف ابتدأً من السوية السابعة إلى الثانية عشرة،
وعلى حلي نحاسية، وقطع أخرى من أختام، ودمى للآلهة الأم،
وذلك في الطبقة الثانية عشرة.
وفي السويات الثلاث الأخيرة من 13 إلى 15 كشف عن أوان من
نموذج سامراء، وأوان أخرى متعددة الألوان مشابهة لألوان الأواني
المكتشفة في رأس الشمرا، وبيبلوس.
استطاع "مالوان" استناداً إلى ما اكتشفه في الموقع أن يؤكد وجود الصلات
الوثيقة بين منطقة دجلة والبحر الأبيض المتوسط من جهة،
وبين بلاد الهلال الخصيب والعالم الإيجي من جهة أخرى، وأن يثبت
وجود بعض الصلات القديمة بالهند والمدنية الإيرانية من جهة ثالثة،
وقد استدل من الرقم المسمارية التي اكتشفها على وجود شعب شديد الاختلاط،
ماهر في صنع الأسلحة، وممارس ماهر لأعمال الزراعة.
من الثابت أن أول من بدأ أعمال التنقيب في تل شاغر بازار العالم الأثري
الإنكليزي "ماكس مالوان" وذلك فيما بين عامي 1937-1935 م
وذلك بمساعدة زوجته الكاتبة الشهيرة "أغاثا كريستي"، حيث تمكن من التعرف
على عدة سويات أثرية تم تأريخها مابين الألف الخامس والألف الثاني قبل الميلاد.
وقد توقف العمل في الموقع منذ ذلك التاريخ حتى عام 1999 م، حين
رخصت رسمياً لبعثة أثرية سورية- بلجيكية- إنكليزية مشتركة للعمل فيه وذلك
برئاسة "عبدالمسيح بغدو" عن الجانب السوري من المديرية العامة للآثار والمتاحف،
و د. " أونهان تونجا" عن الجانب البلجيكي، و د. " أوغوستا مكماهون" عن الجانب
الإنكليزي، وعندما أنهت البعثة الأثرية الإنكليزية أعمالها عام 2002م
تابعت البعثة الأثرية السورية - البلجيكية المشتركة أعمالها في الموقع.
وقد تبيّن من خلال الأسبار وأعمال التنقيب المنهجي التي تمت خلا ل
ثمانية مواسم في عدة قطاعات أن العصور التاريخية التي تتالت على الموقع هي :
" - العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار- فترة حسونة- فترة سامراء-
فترة حلف بمراحلها الثلاثة- فترة عبيد - فترة أوروك
- العصر البرونزي القديم) فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة - الفترة ما بعد الأكادية)
- العصر البرونزي الوسيط) الفترة البابلية القديمة.(
وتمّ التعرف عند قاعدة التل في الجهة الشمالية الغربية من القطاع /F /
على أول دلائل للاستيطان في تل شاغربازار، وهي تعود إلى فترة حسونة/ III /،
وفترة سامراء، كما كشف عن عمارة تمثلت بجدران مبنية من اللبن لأجل
حماية المنازل من الخارج، وعن أجزاء من عمارة احتوت على جدران
وأرضيات تعود إلى فترة ما قبل حلف، وعلى عدة أبنية دائرية الشكل أحدها
محفوظ بشكل جيد، وقد قُدّر قطره بأكثر من خمسة أمتار،
وهو أول تأكيد وشهادة واضحة على وجود بناء دائري الشكل يعود إلى فترة حلف
في تل شاغربازار، إضافة إلى سوية تعود إلى الفترة الانتقالية من فترة حلف
إلى فترة عبيد، وعن مجموعة قبور تعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث ق. م،
وعن أجزاء من أبنية تعود إلى بداية الألف الثاني ق.م.
إنَّ اللقى الأثرية التي عثر عليها داخل هذا القطاع كانت متجانسة نسبياً،
منها أجزاء لأشكال دمى إنسانية أو حيوانية، إضافة إلى قلادة صغيرة الحجم
لها ثقب في الأعلى حفر عليها رسوم هندسية تعود إلى فترة حلف،
وهي متعاقبة زمنياً مع الكسر الفخارية التي تم اكتشافها،
إلا أنَّ الاكتشاف الأهم في هذا ا لقطاع هو العثور على أداتين اسطوانيتين
مصنوعتين من حجر المرمر داخل حفرة تعود إلى فترة حلف،
ولهما كشف مشابه في موقع يا ريم تبه في العراق.
ومن خلال تنظيف مقطع بعرض مترين وعمق 9،44م في حفرة ما قبل التاريخ
التي عمل فيها "مالوان" سابقاً وصولاً إلى الأرض العذراء في السبرE ،
تم التعرف على /61/ طبقة أثرية، و/15/ منشأة معمارية أرضيات سكن- حفر
بداخلها فخار وأوبسيديان وصوان وعظام وأدوات عظمية.
ومن خلال دراسة تلك المواد تبين وجود أربع مراحل أساسية تمتد
من الألف السادس ق.م، وحتى فتر ة البرونز القديم، كما بلغ عمق طبقات
المراحل الثلاثة الأقدم 6م ، والمرحلة الأولى الأحدث 3.44م.
حيث تمّ تأريخها بناءً على دراسة الكسر الفخارية المكتشفة وعلى
طريقة الفحم المشع /C14/.
-المرحلة الأولى : وهي الأقدم تعود إلى فترة حلف الباكر،
أي نهاية الألف السادس ق.م، عثر بداخلها على بعض نماذج من
فخار سامراء الملون المزين، ونماذج من فخار حسونة (III).
- المرحلة الثانية: تعود إلى فترة حلف الأوسط 4900-4600ق.م،
وهي على الأرجح المرحلة الأساسية للاستيطان في الموقع في فترة
ما قبل التاريخ، ففي هذه المرحلة كشف ما يقارب (20) طبقة أثرية،
عثر بداخلها على مجموعة من اللقى الأثرية. ومن خلال الدراسة تبين
أن المرحلة السطحية لهذه الطبقة مماثلة للطبقة العائدة لنفس الفترة
في تل عقاب، و في تل أم قصير.
- المرحلة الثالثة: تعود إلى فترة حلف المتأخرة، مع بعض التأثيرات
العبيدية 4600-4300 ق.م.
- المرحلة الرابعة: الأحدث تبين أنها تعود إلى منتصف الألف الثالث ق.م
. فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة.
كما أعطى السبرK النتائج العلمية نفسها التي كشف عنها في القطاع E.
وأكدت المكتشفات في السبر /C/ ذو الأبعاد 2x3م على عمق 2.5م
، ووجود أربع مراحل أثرية تعود إلى فترة العصر الحجري النحاسي المتأخر،
ومن خلال دراسة الكسر الفخارية تبين أنه فخار محلي شمالي
ليس فيه أية تأثيرات جنوبية.
هذا وقد شهد الموقع خلال الألف الثالث ق.م استمراراً في الاستيطان
حيث كشف في القطاعB عن منشأة معمارية مبنية من اللبن تعود إلى
النصف الأول من الألف الثالث ق.م، كانت جدرانها مطلية سبع مرات
بطلاء مخلوط بالحّوار والطين ذي اللون الأبيض والأحمر
. وفي الزاوية الجنوبية الشرقية منها تم التعرف على فرن صغير
وضعت بجانبه كسر فخارية، والى الشرق منه كشف عن جدارين متوازيين
يفصل بينهما مجرى مائي، وتشير الكسر الفخارية إلى أنهما يعودان إلى الألف
الثاني ق.م، ومن المحتمل أن تكون هذه الجدران مرتبطة بالجدران الخارجية للمدينة.
وفي القطاع / H / تم التعرف على عدة مراحل تعود إلى فترة فجر السلالات
الباكرة الثالثة، وتُعد المرحلتان الثانية والثالثة من أهم المراحل حتى الآن
. حيثُ كشف في المرحلة الثانية عن منشأة معمارية سكنية احتوت على
غرفة كبيرة وغرفتين صغيرتين استخدمتا كمطبخ، وإلى جنوبها مدفنان
مبنيان من مادة اللبن بشكل مقبب حيث عثر بداخلهما على هيكلين عظميين
وبجانبهما أدوات جنائزية.
وفي المرحلة الثالثة تمّ التعرف على مقبرة احتوت على ثلاثة عشر قبراً عادياً
ضمن مساحة 15×15متراً دون العثور على أي أبنية.
ويبقى السؤال المطروح،ما هي طبيعة تل شاغر بازار خلال فترة الحضارة الأكادية ؟
حيث أن "مالوان" عثر أثناء حفرياته في الموقع على بعض طبعات الأختام،
وعلى كتل طينية لإغلاق الأبواب تشير إلى أن قاطني التل آنذاك كانوا على
علاقة مع الدولة الأكادية، لكنه لم يكتشف أي أثر لذلك حتى الآن.
كما كشف في القطاع D مبنى عثر بداخله على مجموعة من الغرف جدرانها
مطلية بمادة الكلس، حيث وجد بداخلها مجموعة من التنانير، وبعض الكسر
الفخارية العائدة إلى الفترة ما بعد الأكادية، وإلى جنوب المبنى كُشف عن
مدخله المشَّيد من الحجر البازلتي حيث توضعت تحته قناة لتصريف المياه
كانت تؤدي إلى الشارع المحاذي للمبنى.
لقد ازدهر الموقع واتسع حجم الاستيطان فيه خلال فترة الحضارة البابلية القديمة
حيث تعرفت البعثة في القطاع/G/ على طريق طوله 35متراً، وعرضه متر واحد
كان مرصوفاً بالحجارة والكسر الفخارية، اتجاهه شمال- جنوب، وعلى جانبيه
منازل مبنية من مادة اللبن تعود إلى الفترة البابلية القديمة.
وكشف في القطاع /A/ عن خمسة مبان مبنية بمادة اللبن، وكانت متصلة
ببعضها البعض، وتشير الدراسات إلى أنها مبان إدارية تعود إلى الفترة
البابلية القديمة، أهمها المبنى الثالث الذي تألف من غرفة استقبال كبيرة،
وفناء مبلّط بقرميد مشوي وبلاط حجري، وغرفة صغيرة احتوت على
أوان فخارية مكسّرة متوضعة على أرضيتها استخدمت للتخزين،
إضافة إلى غرفة حمام صغيرة في أرضيتها قناة لتصريف المياه تؤدي
إلى الشارع عبر الجدار الشرقي، وعلى رواق مرصوف ومدخل
. والى الشرق منه تم الكشف عن طريق يمتد على طول المبنى الأول
والثالث حيث عثر فيه على طبعة ختم طيني، وهو عبارة عن مشهد إهداء"
موكب من رسومات لأشخاص تدنو من إله جالس".
وفي القطاع /I/ الذي بلغ طوله 100 متر، واتجاهه شرق- غرب،
وعرضه يتراوح مابين 10-20 متراً تم التعرف على عدة مراحل أثرية
تعود إلى الفترة البابلية القديمة، وتعد المرحلة /13/ من أهم المراحل،
حيث كشف عن جزء من مبنى إداري كبير مبني من مادة اللبن،
وتم التعرف عليه من خلال الجدران والمدخل الذي كشف عنه،
وعند مدخل المبنى المذكور عثر على مجموعة من الرقم المسمارية،
وطبعات الأختام.
وإلى الجنوب من المبنى السابق كشف عن أساس لسور مبني من اللبن
بطول يزيد عن 60 متراً يتجه من الشرق إلى الغرب وهو بعرض 3.5 متراً،
وتشير جميع الدلائل إلى أنه مبنى إداري مهم أيضاً يعود إلى فترة الملك شمشي أدو
البابلي، الذي حكم بين عامي 1775 -1806 ق.م.
كما تم الكشف في المراحل الأحدث عن عمارة لبيوت مختلفة الأحجام
كما تم الكشف في المراحل الأحدث عن عمارة لبيوت مختلفة الأحجام
توّضع تحت أرضياتها مجموعة من المدافن البئرية التي يتم الدخول إليها
عبر فتحة، حيث يوضع المدفون في فجوة جانبية، معظمها ضمَّت مجموعة
من عظام الحيوانات وأدوات جنائزية، وعثر فوق المدفون وحوله على خشب
ونسج لمادة نباتية. كما تم التعرف على مدفنين مع مدخل فريد كان مشتركاً
بين فجوتين جانبيتين هُيأت الأجزاء الجنوبية والشمالية منه لوضع الدفين
ويعّد الأول من نوعه في الموقع.
من اللقى الهامة التي عثر عليها في موقع شاغر بازار مائتان وستة وعشرون
رقيماً مسمارياً، ومجموعة من الأختام أهمها الختم الرسمي الخاص الذي يحمل
طبعة الملك شمشي أدو ولهذا الختم كشف مشابه في موقع آجام هويوك في تركيا.
و مجموعة من الدمى لها شكل إنسان أو حيوان، وأجزاء من عربات صغيرة صنعت
من الطين وأدوات مصنوعة من البرونز والفخار والعظام والحجر، ومجموعة من خرز
الكريستال ذي الألوان المختلفة.
إن أهمية تل شاغر بازار تبدو جلية من خلال الاكتشافات الأثرية الحديثة التي
تحققت فيه وخاصة من الناحية المعمارية والأثرية، تلك التي أكدت أهمية الموقع
وكشفت عن رقي المجتمع الذي ساد فيه بين المدن والممالك في بلاد الرافدين
العليا وخاصة خلال الفترة البابلية القديمة.
بقلم د.ع.بغدو
المرجع : مائة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية -دمشق 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق