البحث الأثري في تل خزنة /1 - 2 / TELL HAZNA
يقع تل خزنة /1 /على الضفة اليسرى لوادي خنـزير أحد روافد نهر الجغجغ،
على بعد 27كم شمال شرق مدينة الحسكة، وهو ذو شكل بيضوي
قطره 150 م، ويرتفع عن السهول المحيطة به 17.2م.
في عام 1988م بدأت بعثة من معهد أكاديمية العلوم الروسية برئاسة
د. "رؤوف مونتشايف" بتنقيبات واسعة النطاق في تل خزنة /1/.
حيث بينّت أعمال التنقيب المنهجي التي تمت خلال عدة مواسم في
الموقع العصور التي مرّ بها الموقع.
أما تسلسل العصور التي مرت عليه فيمكن إيجازها بالتالي: "-
العصر الحجري ، النحاسي / فترة ثقافة عبيد - فترة ثقافة أوروك
/ - العصر البرونزي القديم / فترة فجر السلالات الباكرة بمراحلها الثلاث
الفترة ما بعد الأكادية / - العصر البرونزي الوسيط / فترة الخابور /.
وقد عثرت البعثة داخل أقدم السويات الأثرية على عمق تراوح
بين 14,7وحتى 15.8 م على مجموعة فخاريات، أهمها:
وعاء توضع على الأرض العذراء، حيث عثر بداخله على عظام
لطفل صغير يعود إلى فترة عبيد، توضعت فوقها سوية أثرية ظهرت
على عمق تراوح ما بين 12م حتى14.7 م، وقد احتوت على مجموعة
فخاريات تعود إلى فترة ثقافة أوروك.
وقد استمرت عمليات التمدن وتشكل بنى الدولة والحضارة، ومن ضمنها
ظهور مراكز دينية خاصة إلى عهد قريب تدرس على ضوء مكتشفات
وادي الرافدين الأدنى والأوسط، أما الآن فقد تغير الأمر بعد اكتشاف سوية
أثرية بلغ ارتفاعها 16متراً ضّمت الجهة الجنوبية من الموقع أعظم مكونات
تل خزنة /1/ شأناً وهو المجمع المعبد الذي شُيّد في نهاية الألف الرابع ق.م،
واستمر حتى نهاية فترة فجر السلالات الباكرة الثالثة الذي تألف من شبكة أبنية
متعددة ربط معظمها وفق المخطط العام، واتسم مكانها بوجود أربع مصاطب
متدرجة ارتبط كل منها بمجموعة من الأبنية، عثر فوقها على المباني الأساسية،
والأبراج الضخمة التي احتوت على أعمدة نصفية من نفس النموذج المألوف
في هندسة بناء معابد بلاد الرافدين القديمة /معبد خفاجة / ومعابد أخرى.
وقد رصفت سطوح المصاطب الأحدث مع أسطح المنحدرات القائمة بينها بالحجارة،
حيث سمحت هذه الدلائل بإدراج هذه المنشأة المعمارية في عداد ما يسمى
المعبد العالي الطراز النموذجي المميز لهندسة المنشآت الدينية ذات التركيبة
المدرجة للمواقع في بلاد الرافدين، ومن هنا تأتي الأهمية الخاصة لاكتشافه
لأول مرة في تل خزنة/I/ في شمال شرقي سورية.
وكشفت التنقيبات في المصطبة السفلى عن سور يحيط بمجمع المعبد الذي
يؤلف مجموعة الأبنية الأساسية، ويعتقد أنه ذو صفة دفاعية.
كان للسور محور بيضوي الشكل غير مكتمل، وقد بلغ طوله حتى الآن 80م،
وارتفاعه4 م في بعض الأجزاء، وتراوح عرضه ما بين 1.60م حتى 2م،
وقد بني من طبقات متراصة من اللبن والتراب، ثم طلي بالطين من الجانبين،
وعثر بداخله على منشآت معمارية هامة على شكل أبراج، أهمها البرج رقم /37/،
الذي بلغ ارتفاع جدرانه المشيدة من مادة اللبن والمطلية من الخارج، وجزء من
الداخل بطبقة من الجص ذي اللون الأخضر والبني ثمانية أمتار،
أمَّا أبعاد محيط سطحه العلوي فتبلغ 5×6.40م وقد شُيد على قاعدة من الطين
المشوي الكبير الحجم بلغ ارتفاعها /1.70م/ .ولهذا البرج مدخل من الأعلى حيث
تداخل جدار المعبد السفلي ذي أنصاف الأعمدة الجدارية مع هذا البرج المرتبط
بمجموعة الهياكل التي شكلت بالنسبة له مركزاً معمارياً مميزاً،
وعثر في داخله أيضاً على الحجيرات العمودية المتتالية القائمة،
وقد فصلتها عن بعضها البعض أرضيات مرصوفة باللبن المشوي والحجارة،
ووجد في الحجرة العليا الأفاريز الحاملة للسقف، ولإحدى حجرات البرج السفلية
مدخل يفضي إلى الفناء، وعلى أرضيات الحجرات من الداخل توضعت طبقات
كثيفة من الرماد عثر في داخلها على بقايا حبوب وعظام حيوانات ولقى أثرية
/نصال مناجل - دمى حيوانية/، وفي الجهة الجنوبية الخارجية من القسم العلوي
للبرج عُثر داخل الكوى الطولانية على مجموعة لقى أثرية أهمها /مجموعة نصال،
وختم مستطيل الشكل/. إنّ قلة اللقى الأثرية داخل هذا البرج إضافة إلى طبيعة
وأوصاف وطريقة بنائه تؤكد أنه كان قد استخدم كمبنى مقدس كما هو الحال في
زقورات جنوب بلاد الرافدين.
ثم كشف فوق المصطبتين السفلية والثانية عدد من الحجرات والأقنية المرتبطة بالبرج،
وسور فيه أنصاف أعمدة جدارية ارتفاعه ستة أمتار محيطاً بحرم المعبد من
الجنوب والشرق، وفي الجهة المقابلة وعلى مستوى المصطبة الأولى تمَّ التعرف
على أبنية ضخمة مرتبطة بالبرج رقم /37/ حيث كشف داخل أحدها المذبح المبني
من اللبن المشوي وتنور نصف أسطواني.
كما ضَّمت منشأة معمارية أخرى البرج رقم /110/ المُشَّيد على شكل هرم والذي
يرتبط بصلة وثيقة بالبرج رقم/37/سواء من حيث الشكل أو الأبعاد،
وتبين أن المبنيين ينتميان لمستوى البناء الأول الذي يرتكز عليه مجمع المعبد.
كما احتوى البرج رقم/110/على حجرتين متوسط أبعادهما في
المستوى العلوي 2×2.5م. يتم الوصول إلى داخله عن طريق الفتحة العلوية،
ويعتقد أنه استخدم كمخزن للحبوب وأنه يتسع لحوالي 30طن من القمح
ما يكفي لمعيشة (120) شخص لمدة عام.
وفي الجهة الشرقية من الموقع كشف عن مبان ضخمة ذات صبغة دينية واقتصادية،
أما في الجهة الغربية من الموقع فقد تم التعرف على منازل وصل ارتفاع جدران
بعضها إلى ستة أمتار.
كما كشفت التنقيبات في المصطبة الثانية التي ارتبطت بالبرج رقم /37/
عن مجموعة مباني وفناءين كبيرين تسورهما الجدران، وحرم صغير عثر بداخله
على مذبح مستطيل الشكل، و ضمَّت المصطبة الثالثة شبكة مباني معمارية ذات
صفة دينية أو اقتصادية توضع في مركزها البرج رقم/24/،
وهو صورة مصغرة عن البرج رقم /37/، وإلى الجنوب الغربي منه عثر على
عدد من الأفران لصناعة الأواني الفخارية.
وفي الجهة الشمالية من التل كشف عن المدفن رقم /35/ الذي احتوى على
رفات لطفل صغير، وأدوات جنائزية هامة ومن خلال دراستها تبين أنه يعود
إلى نهاية الألف الثالث ق.م.
وبانتهاء أعمال التنقيب في الجهة الجنوبية الغربية من الموقع المنشأة
رقم /401/ توصلت البعثة إلى أن هذه المنشأة هي عبارة عن خزان ماء
مبني من الطين يعود إلى النصف الأول من الألف الثاني ق.م- فترة الخابور.
وأخيراً تأتي أهمية تل خزنة /1/ من خلال الاكتشافات الأثرية التي تحققت فيه،
وخاصة المنشأة المعمارية المبنية بمادة اللبن، والتي هي نموذج خاص
للمعبد البرج /الزقورة/ التي كانت حتى فترة متأخرة معروفة في بلاد الرافدين الجنوبي
و الأوسط، وتبين أن هذا التل يحتوي على هذا النموذج من المعابد.
لذلك يُعد هذا المعبد أقدم صرح ديني جمع بين العبادة والإنتاج وعرفته هذه المنطقة
في سورية حتى الآن، وهو ذو أهمية كبيرة حيث أعطى معلومات قيّمة عن التطور
الثقافي خلال فترة الألفين الرابع والثالث ق.م وبشكل خاص دور سورية في هذا التطور.
أما الموقع الثاني الذي عملت فيه بعثة معهد أكاديمية العلوم الروسية عام 1991م
فهو تل خزنة/2/ المتوضع على الضفة اليمنى لوادي خنـزير وذلك على
بعد 26كم شمال شرق مدينة الحسكة، وتبلغ مساحته 100×150م،
ويرتفع عن السهول المحيطة به حوالي 9 أمتار.
وقد تبين للبعثة الروسية العاملة في الموقع من خلال الكسر الفخارية المنتشرة
على سطح التل، أن الموقع يعود إلى نهاية الألف السابع ق.م،
وإلى النصف الأول من الألف السادس ق.م، ووجدت كسراً فخارية تشبه
الأواني العائدة إلى فترة حلف - الألف الخامس ق.م، وأخرى ملونة من نفس
أسلوب فخاريات فترة الخابور - النصف الأول من الألف الثاني ق.م،
وكذلك كسراً فخارية تعود إلى الفترة الهلنستية، بالإضافة إلى كسر فخارية
مزججة تعود إلى فترة الحضارة العربية الإسلامية.
هذا وقد دل الكشف الأثري في السبر الواقع في الجهة الشرقية من التل
ذي الأبعاد 5×15م، وعلى عمق 8 م، على وجود سويات أثرية بلغ عمق
أقدمها 3.5م تنتمي لحضارة تل سوتو التي ترتبط تاريخياً بأواخر
عصر حسونة القديم، تليها سوية تعود لعصر لاحق، ثم سوية صغيرة أخرى
تعود إلى فترة حلف، وقد توضعت فوقها أنقاض لمقبرة كبيرة تعود إلى
فترة أوروك المتأخر، تلتها عدة طبقات تعود إلى فترة فجر السلالات الباكرة.
لذلك تُعد النتائج التي توصلت إليها البعثة في الطبقة السفلى من تل خزنة
/2/
في غاية الأهمية، كونها مشابهة لما كشف عنه في تل كشكشوك (2)،
مما يؤكد أن هذه المنطقة سادت فيها أقدم الحضارات الزراعية، فلأول مرة
في منطقة بلاد الرافدين الأعلى يتم العثور على حلقة ربط مع حضارة تل سوتو
التي سبقت عصر حسونة في تطور الحضارات الزراعية في الشرق، والتي تم
تأريخها مابين الربع الأخير من الألف السابع ق.م وبدايات الألف السادس ق.م،
وتم إثبات انتماء هذا الموقع إلى هذه الحضارة بعد التنقيب في الطبقة السفلى
لتل خزنة /II /، واكتشاف جرار كبيرة استعملت كقبور للأطفال،
بالإضافة إلى بعض الأواني الفخارية والمرمرية وبعض العقود المؤلفة من حبات
حجرية ومثل هذه اللقى معروفة في حضارة تل سوتو.
وقد أكدت المكتشفات وجود حضارة مشتركة تمتد من موقع الحضر في الجنوب الشرقي
حتى تل خزنة2، ومنطقة الحسكة في الشمال الغربي، وأن هذه المنطقة من سورية تشكل
حلقة وصل بين المواقع المبكرة، مثل: المريبط وأبو هريرة والرماد وغيرها،
التي ضمت أدلة على تدجين الحيوان وبدء الزراعة، وبين المواقع المتأخرة، مثل:
حلف. وأكثر من ذلك؛ فإن التواصل المعروف للمجتمعات الزراعية الأولى
في المنطقة السورية يتلاءم مع الدلائل العراقية في شمال بلاد الرافدين.
إن نشوء مثل هذه المجتمعات الزراعية على امتداد هذه المنطقة الشاسعة يبرهن
على تكون نظام للاتصالات التجارية والحضارية في مراحل موغلة في القدم.
المرجع : بغدو ,عبدالمسيح . مائة وخمسون عاماً من البحث الأثري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق