لطالما اعتُبرَت منطقة «بلاد ما بين النهرين» الموطن الأول للحضارة البشرية، ومنها انطلقت إلى أرجاء العالم القديم، لكنّ الدراسات الأكاديمية الحديثة تتبنّى اليوم نظرية تقول إنّ الحضارة البشرية انبثقت من عدة مراكز حضارية متباعدة جغرافياً، اتخذ كلّ منها مساره الحضاري الخاص، قبل أن تلتقي وتتلاقح عبر حضارات وسيطة،
أهمها الحضارة العربية الإسلامية، لتشكّل بمجموعها الحضارة البشرية التي نعيشها اليوم.
كما أثبتت الكشوفات الأثرية، التي تمّت في بدايات القرن العشرين، وخاصة اكتشاف مواقع إيبلا (إدلب) وماري في حوض الفرات الأوسط، وتل حلف في منطقة الجزيرة السورية ـ محافظة الحسكة، أنّ حضارة «بلاد ما بين النهرين» لم تقتصر على الجزء الجنوبي، بل كانت هناك مراكز حضارية مزدهرة على طول مجرى نهر الفرات، وتمتد إلى الداخل السوري.
وتعدّ المنجزات الحضارية، التي قدّمتها تلك الحضارات القديمة، مثيرة للإعجاب؛ ففيها تحوّل الإنسان من حياة الجمع والالتقاط، التي ميّزت العصر الحجري القديم والمتوسط، إلى حياة الاستقرار الزراعي، التي ميّزت العصر الحجري الحديث في الألف السادسة قبل الميلاد، حيث تعلّم الإنسان الزراعة الدائمة، وزرع القمح والشعير، كما تعلّم استخدام العجلة، واستئناس الحيوانات، وظهرت صناعة الفخار، وأصبحت اللقى الفخارية ذات الطرز المختلفة، والنقوش المتعددة، الوسيلة الأساسية لتحديد عمر وطبيعة الحضارات المتعاقبة على أيّة بقعة جغرافية يتمّ التنقيب الأثري فيها.وقد جذبت منطقة الجزيرة السورية – محافظة الحسكة انتباه المهتمين بالبحث الأثري منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد كان الباحثون الأوائل من قناصل الدول الأجنبية في السلطنة العثمانية المهتمين بالآثار، ثمّ تطور الأمر إلى بعثات علمية متخصصة تابعة للجمعيات العلمية والجامعات الدولية، وبعد استقلال سورية، أصبحت بعثات مشتركة بين الباحثين الأجانب والباحثين السوريين.
يقدّم الصديق الأستاذ عبد المسيح حنا بغدو في كتابه الجديد «مئة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية»، الصادر عن المديرية العامة للآثار والمتاحف – مركز الباسل للبحث والتدريب الأثري، توثيقاً لعمليات البحث الأثري هذه، والنتائج التي توصلت إليها، كما يقدّم توثيقاً لعمليات إنقاذ الكنوز الأثرية والمعرفية التي ستغمرها مشاريع السدود والري في حوض الخابور.والجزيرة السورية (الحسكة) تعدّ واحدة من أهمّ عقد المواصلات البرية، ومفترق الطرق في المنطقة، فخطوط المواصلات الرئيسية تمرّ عبرها، فتكون عقدة اتصال مباشر مع إيران والهند وقبلها مع بلاد الرافدين وبلاد الأناضول وغرباً مع مصر وجنوب أوروبا وشرق المتوسط حتى سواحل المغرب والجزائر وإسبانيا وصقلية.استهلّ الباحث بغدو القسم الأول من كتابه بالحديث عن جغرافية الجزيرة السورية، والقسم الثاني أفرده للأبحاث الأثرية في الجزيرة السورية منذ العام 1850 ولغاية 1976، والقسم الثالث للأبحاث الأثرية في الجزيرة السورية منذ العام 1976 ولغاية 2006، والقسم الرابع للأبحاث الأثرية لحملة إنقاذ آثار الخابور، والقسم الخامس لنتائج المسح الأثري في الجزيرة السورية، ثمّ الخاتمة، بالإضافة إلى ملحق صور للمواقع الأثرية، وملحق عن المصادر والمراجع العربية والأجنبية، وأخيراً قائمة الاختصارات.ويجمع المؤلف بين قيمة التوثيق العلمي ومتعة القراءة في كتابه هذا، حيث يقدّم صورة وافية للطبيعة الجغرافية لمحافظة الحسكة، والأهمية التاريخية والأثرية والحضارية لها، كما يقدّم سرداً كاملاً بأسماء علماء الآثار الذين عملوا في المنطقة، ومنهم «ماكس فون أوبنهايم» الذي اكتشف حضارة «تل حلف»، التي تعدّ من أهم المكتشفات الأثرية في العالم لحضارة الألف السادس قبل الميلاد، والتي وجدت فيها التماثيل الطينية للأم الكبرى التي تعدّ أوّل تماثيل مكرسة للآلهة في تاريخ البشرية، والأب «بواد بارد»، الذي قام بأول تصوير جوي لمنطقة الجزيرة، وعمل الباحث الأثري ماكس مالوان وزوجته الكاتبة الروائية الشهيرة أغاثا كريستي في منطقة عامودا (تل موزان)، و(شاغر بازار..)، وغيرها، ما بين عامي 1934-1937، التي كتبت خلالها أشهر رواياتها «جريمة في قطار الشرق السريع»، و»بيكنغ هام»، و»أوين سميث» و»فوربس» و»تشيسني»..
كما تعكس صفحات الكتاب الصراع الذي جرى بين الدول الأوروبية في نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين على تركة الرجل المريض، والذي كان ميدان البحث الأثري أحد ساحاته.
يجمع عبد المسيح بغدو في كتابه «مئة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية» ما بين متعة القراءة للقارئ المهتمّ وأهمية التوثيق بالجداول والخرائط والمصورات للقارئ المهتمّ، وهي إضافة جديدة ومباركة تعكس التاريخ العميق والتنوع الحضاري المميز الذي تنعم به محافظتنا الحسكة وبلدنا سورية.كما يورد الفترات الزمنية التي مرّت على الجزيرة السورية، والحضارات التي توالت عليها: العصر الحجري ما قبل الفخار، وحضارات حسونة، وحلف، وعبير، وأوروك، والسلالات الباكرة، والأكادية، وأور والبابلية والآشورية، والخابور، والميتانية، والإخمينية، والهلنستية، والبارثية، والرومانية، والبيزنطية، والساسانية، ومن ثمّ أخيراً العربية الإسلامية.
نسجل التقدير للمؤلف والمشرفين العلميين على الكتاب: د. بسام جاموس، المدير العام للآثار والمتاحف، ود. عمار عبد الرحمن، مدير مركز الباسل للبحث والتدريب الأثري، والمدقق العلمي أ. محمود حمود، والمدقق اللغوي والمخرج الفني أ. محمد خالد حمودة، والهيئة العامة السورية للكتاب، جهد مشكور مقدّر ومحترم. مختتمين بقول صديق سورية، عالم الآثار الإيطالي المعروف د. باولو إيميليو بيكوريلا: «إنّ الآثار الموجودة في الجزيرة السورية أغنى من بترولها، وأكثر مردوداً، وهي أكثر منطقة واعدة في العالم بالآثار».
أهمها الحضارة العربية الإسلامية، لتشكّل بمجموعها الحضارة البشرية التي نعيشها اليوم.
كما أثبتت الكشوفات الأثرية، التي تمّت في بدايات القرن العشرين، وخاصة اكتشاف مواقع إيبلا (إدلب) وماري في حوض الفرات الأوسط، وتل حلف في منطقة الجزيرة السورية ـ محافظة الحسكة، أنّ حضارة «بلاد ما بين النهرين» لم تقتصر على الجزء الجنوبي، بل كانت هناك مراكز حضارية مزدهرة على طول مجرى نهر الفرات، وتمتد إلى الداخل السوري.
وتعدّ المنجزات الحضارية، التي قدّمتها تلك الحضارات القديمة، مثيرة للإعجاب؛ ففيها تحوّل الإنسان من حياة الجمع والالتقاط، التي ميّزت العصر الحجري القديم والمتوسط، إلى حياة الاستقرار الزراعي، التي ميّزت العصر الحجري الحديث في الألف السادسة قبل الميلاد، حيث تعلّم الإنسان الزراعة الدائمة، وزرع القمح والشعير، كما تعلّم استخدام العجلة، واستئناس الحيوانات، وظهرت صناعة الفخار، وأصبحت اللقى الفخارية ذات الطرز المختلفة، والنقوش المتعددة، الوسيلة الأساسية لتحديد عمر وطبيعة الحضارات المتعاقبة على أيّة بقعة جغرافية يتمّ التنقيب الأثري فيها.وقد جذبت منطقة الجزيرة السورية – محافظة الحسكة انتباه المهتمين بالبحث الأثري منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد كان الباحثون الأوائل من قناصل الدول الأجنبية في السلطنة العثمانية المهتمين بالآثار، ثمّ تطور الأمر إلى بعثات علمية متخصصة تابعة للجمعيات العلمية والجامعات الدولية، وبعد استقلال سورية، أصبحت بعثات مشتركة بين الباحثين الأجانب والباحثين السوريين.
يقدّم الصديق الأستاذ عبد المسيح حنا بغدو في كتابه الجديد «مئة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية»، الصادر عن المديرية العامة للآثار والمتاحف – مركز الباسل للبحث والتدريب الأثري، توثيقاً لعمليات البحث الأثري هذه، والنتائج التي توصلت إليها، كما يقدّم توثيقاً لعمليات إنقاذ الكنوز الأثرية والمعرفية التي ستغمرها مشاريع السدود والري في حوض الخابور.والجزيرة السورية (الحسكة) تعدّ واحدة من أهمّ عقد المواصلات البرية، ومفترق الطرق في المنطقة، فخطوط المواصلات الرئيسية تمرّ عبرها، فتكون عقدة اتصال مباشر مع إيران والهند وقبلها مع بلاد الرافدين وبلاد الأناضول وغرباً مع مصر وجنوب أوروبا وشرق المتوسط حتى سواحل المغرب والجزائر وإسبانيا وصقلية.استهلّ الباحث بغدو القسم الأول من كتابه بالحديث عن جغرافية الجزيرة السورية، والقسم الثاني أفرده للأبحاث الأثرية في الجزيرة السورية منذ العام 1850 ولغاية 1976، والقسم الثالث للأبحاث الأثرية في الجزيرة السورية منذ العام 1976 ولغاية 2006، والقسم الرابع للأبحاث الأثرية لحملة إنقاذ آثار الخابور، والقسم الخامس لنتائج المسح الأثري في الجزيرة السورية، ثمّ الخاتمة، بالإضافة إلى ملحق صور للمواقع الأثرية، وملحق عن المصادر والمراجع العربية والأجنبية، وأخيراً قائمة الاختصارات.ويجمع المؤلف بين قيمة التوثيق العلمي ومتعة القراءة في كتابه هذا، حيث يقدّم صورة وافية للطبيعة الجغرافية لمحافظة الحسكة، والأهمية التاريخية والأثرية والحضارية لها، كما يقدّم سرداً كاملاً بأسماء علماء الآثار الذين عملوا في المنطقة، ومنهم «ماكس فون أوبنهايم» الذي اكتشف حضارة «تل حلف»، التي تعدّ من أهم المكتشفات الأثرية في العالم لحضارة الألف السادس قبل الميلاد، والتي وجدت فيها التماثيل الطينية للأم الكبرى التي تعدّ أوّل تماثيل مكرسة للآلهة في تاريخ البشرية، والأب «بواد بارد»، الذي قام بأول تصوير جوي لمنطقة الجزيرة، وعمل الباحث الأثري ماكس مالوان وزوجته الكاتبة الروائية الشهيرة أغاثا كريستي في منطقة عامودا (تل موزان)، و(شاغر بازار..)، وغيرها، ما بين عامي 1934-1937، التي كتبت خلالها أشهر رواياتها «جريمة في قطار الشرق السريع»، و»بيكنغ هام»، و»أوين سميث» و»فوربس» و»تشيسني»..
كما تعكس صفحات الكتاب الصراع الذي جرى بين الدول الأوروبية في نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين على تركة الرجل المريض، والذي كان ميدان البحث الأثري أحد ساحاته.
يجمع عبد المسيح بغدو في كتابه «مئة وخمسون عاماً من البحث الأثري في الجزيرة السورية» ما بين متعة القراءة للقارئ المهتمّ وأهمية التوثيق بالجداول والخرائط والمصورات للقارئ المهتمّ، وهي إضافة جديدة ومباركة تعكس التاريخ العميق والتنوع الحضاري المميز الذي تنعم به محافظتنا الحسكة وبلدنا سورية.كما يورد الفترات الزمنية التي مرّت على الجزيرة السورية، والحضارات التي توالت عليها: العصر الحجري ما قبل الفخار، وحضارات حسونة، وحلف، وعبير، وأوروك، والسلالات الباكرة، والأكادية، وأور والبابلية والآشورية، والخابور، والميتانية، والإخمينية، والهلنستية، والبارثية، والرومانية، والبيزنطية، والساسانية، ومن ثمّ أخيراً العربية الإسلامية.
نسجل التقدير للمؤلف والمشرفين العلميين على الكتاب: د. بسام جاموس، المدير العام للآثار والمتاحف، ود. عمار عبد الرحمن، مدير مركز الباسل للبحث والتدريب الأثري، والمدقق العلمي أ. محمود حمود، والمدقق اللغوي والمخرج الفني أ. محمد خالد حمودة، والهيئة العامة السورية للكتاب، جهد مشكور مقدّر ومحترم. مختتمين بقول صديق سورية، عالم الآثار الإيطالي المعروف د. باولو إيميليو بيكوريلا: «إنّ الآثار الموجودة في الجزيرة السورية أغنى من بترولها، وأكثر مردوداً، وهي أكثر منطقة واعدة في العالم بالآثار».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق